تأكد قبل أن تنشر....

"من سلك طريقا يبتغي فيه علما ، سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ، ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد ، كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ، ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر"
الراوي: أبو الدرداء المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2682-خلاصة حكم المحدث: صحيح

الاثنين، 29 ديسمبر 2014

54-غزوة بدر من تفسير سورة الأنفال

تفسير سورة الأنفال
درس رقم (54)
7ربيع الأول 1436 هـ
تفسير الشيخ السعدي رحمه الله

حوت كثير من وقائع غزوة بدر

 تفسير سورة الأنفال وهي مدنية
‏[‏1 - 4‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏
الأنفال هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نـزلت في قصة ‏{‏بدر‏}‏ أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، ‏.‏فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها، فأنـزل اللّه ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال‏}‏ كيف تقسم وعلى من تقسم‏؟‏
‏{‏قُلْ‏}‏ لهم‏:‏ الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله،‏.‏ بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما،‏.‏ وذلك داخل في قوله ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ‏}‏ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‏.‏‏.‏
{‏وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر، بالتوادد والتحاب والتواصل‏.‏‏.‏فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل ـ بسبب التقاطع ـ من التخاصم، والتشاجر والتنازع‏.‏
ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر،‏.‏والأمر الجامع لذلك كله قوله‏:‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله‏.‏ كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن‏.‏
ومن نقصت طاعته للّه ورسوله، فذلك لنقص إيمانه، ولما كان الإيمان قسمين‏:‏ إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك ذكر الإيمان الكامل فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان‏.‏
{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف اللّه تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب‏.‏
{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم‏.‏ لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم، أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان‏.‏
‏{‏وَعَلَى رَبِّهِمْ‏}‏ وحده لا شريك له ‏{‏يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن اللّه تعالى سيفعل ذلك‏.‏
والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به‏.‏
‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} من فرائض ونوافل، بأعمالها الظاهرة والباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة ولبها‏.‏ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم،‏.‏والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير‏.‏
‏{‏أُولَئِكَ‏}‏ الذين اتصفوا بتلك الصفات ‏{‏هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده‏.‏ وقدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها‏.‏ وفيها دليل على أن الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها‏.‏
وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه،‏.‏وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى والتأمل لمعانيه‏.‏ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عالية بحسب علو أعمالهم‏.‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏
ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان ـ وإن دخل الجنة ـ فلن ينال ما نالوا من كرامة اللّه التامة‏.‏
‏[‏5 - 8‏]‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ‏}‏‏.‏
قدم تعالى ـ أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة ـ الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها استقامت أحواله وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله‏.‏ فكما أن إيمانهم هو الإيمان الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به، كذلك أخرج اللّه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيته إلى لقاء المشركين في ‏{‏بدر‏}‏ بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، وقد قدره وقضاه‏.‏
وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال‏.‏
فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون‏.‏
والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر اللّه به ورضيه‏.‏ فبهذه الحال ليس للجدال محل ‏[‏فيها‏]‏ لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر‏.‏ فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان‏.‏
هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم‏.‏ وكذلك الذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم اللّه، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها‏.‏
وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة‏.‏ فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس‏.‏ فخرج معه ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلًا معهم سبعون بعيرًا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم‏.‏ فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال، يبلغ عددهم قريبًا من الألف‏.‏
فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير‏.‏ فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، ولأنها غير ذات شوكة‏.‏ ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرًا أعلى مما أحبوا‏.‏
أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم‏.‏ ‏{‏وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ‏}‏ فينصر أهله ‏{‏وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ يستأصل أهل الباطل، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم‏.‏
‏{‏لِيُحِقَّ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه‏.‏ ‏{‏وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ‏}‏ بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ فلا يبالي اللّه بهم‏.‏
‏[‏9 - 14‏]‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُن ـ زلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ‏.‏
أي‏:‏ اذكروا نعمة اللّه عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏}‏ وأغاثكم بعدة أمور‏:‏‏.‏
منها‏:‏ أن اللّه أمدكم ‏{‏بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ يردف بعضهم بعضًا‏.‏
{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ إن ـ زال الملائكة ‏{‏إِلا بُشْرَى‏}‏ أي‏:‏ لتستبشر بذلك نفوسكم، ‏{‏وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ‏}‏ وإلا فالنصر بيد اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ‏.‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏}‏ لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما بلغوا‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها‏.‏
ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أن ـ زل عليكم نعاسا ‏{‏يُغَشِّيكُمُ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون ‏{‏أَمَنَةً‏}‏ لكم وعلامة على النصر والطمأنينة‏.‏
ومن ذلك‏:‏ أنه أن ـ زل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث، وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه‏.‏
{‏وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، ‏{‏وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ‏}‏ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما ن ـ زل عليها المطر تلبدت، وثبتت به الأقدام‏.‏
ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة ‏{‏أَنِّي مَعَكُمْ‏}‏ بالعون والنصر والتأييد، ‏{‏فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ ألقوا في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم، ورغبوهم في الجهاد وفضله‏.‏
{‏سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ‏}‏ الذي هو أعظم جند لكم عليهم، فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم‏.‏
وهذا خطاب، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر، أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين، وأنهم لا يرحمونهم، وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله أي‏:‏ حاربوهما وبارزوهما بالعداوة‏.‏
{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم‏.‏
‏{‏ذَلِكُمْ‏}‏ العذاب المذكور ‏{‏فَذُوقُوهُ‏}‏ أيها المشاققون للّه ورسوله عذابا معجلا‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ‏}‏‏.‏
وفي هذه القصة من آيات اللّه العظيمة ما يدل على أن ما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول اللّه حقًا‏.‏
منها‏:‏ أن اللّه وعدهم وعدا، فأنجزهموه‏.‏
ومنها‏:‏ إجابة دعوة اللّه للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من الأسباب، وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين، وتقييض الأسباب التي بها ثبت إيمانهم، وثبتت أقدامهم، وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية‏.‏
ومنها‏:‏ أن من لطف اللّه بعبده أن يسهل عليه طاعته، وييسرها بأسباب داخلية وخارجية‏.‏
يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية، والقوة في أمره، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان، ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا‏}‏ أي‏:‏ في صف القتال، وتزاحف الرجال، واقتراب بعضهم من بعض، ‏{‏فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ‏}‏ بل اثبتوا لقتالهم، واصبروا على جلادهم، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهابا للكافرين‏.‏
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد‏.‏
ومفهوم الآية‏:‏ أن المتحرف للقتال، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز،فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز،ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة، وأبقى عليهم‏.‏
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد ـ في هذه الحال ـ أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه ـ على هذا ـ لا يتصور الفرار المنهي عنه، وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد‏.‏
‏[‏17 - 19‏]‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏
يقول تعالى ـ لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون - ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏}‏ بحولكم وقوتكم ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ‏}‏ حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره‏.‏
{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏ وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه، ويناشده في نصرته،ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين، فأوصلها اللّه إلى وجوههم،فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها، فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم، وبان فيهم الفشل والضعف، فانهزموا‏.‏
يقول تعالى لنبيه‏:‏ لست بقوتك ـ حين رميت التراب ـ أوصلته إلى أعينهم، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا‏.‏ ‏{‏وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابًا جزيلًا‏.‏
{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها، فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله‏.‏
‏[‏18‏]‏ ‏{‏ذَلِكُمْ‏}‏ النصر من اللّه لكم ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل مكرهم محيقا بهم‏.‏
‏[‏19‏]‏ ‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا‏}‏ أيها المشركون، أي‏:‏ تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين‏.‏
{‏فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ‏}‏ حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالاً لكم وعبرة للمتقين ‏{‏وَإِنْ تَنْتَهُوا‏}‏ عن الاستفتاح ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ‏}‏ لأنه ربما أمهلتم، ولم يعجل لكم النقمة‏.‏ ‏{‏وإن تعودوا‏}‏ إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين ‏{‏نَعُدْ‏}‏ في نصرهم عليكم‏.‏
{‏وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم، شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين‏.‏
ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان‏.‏
فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية ‏[‏انهزاما مستقرا‏]‏ ولا أديل عليهم عدوهم أبدا‏.

نكمل من هنا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق