سيرة20/ 14صفر 1435/ 17-12-2013
التفكير في الهجرة إلى الحبشة
لم يكن قرار الهجرة إلى الحبشة قرارًا سهلًا أو هيّنًا، وإنما كان قرارًا صعبًا، فليس من السهل على الإنسان أن يترك وطنه الذي تربى فيه ونشأ به، أو يترك أهله الذين هم جزء منه، ولم تكن الهجرة لأجل مال أو جاه أو راحة وإنما كانت لله تعالى وفي سبيله وابتغاء مرضاته، وكان اختيار الحبشة للهجرة إليها أمرًا في غاية الحكمة فقد كان هناك مجموعة من العوامل تجعل من الهجرة إلى الحبشة أمرًا ناجحًا وعمليًا.
بعد التعذيب الشديد للمسلمين في أرض مكة وفي بيت الله الحرام، وبعد أن تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، كان قد بدا واضحًا أن النية هي الاستئصال، فماذا يحدث لو هلك المؤمنون؟! وماذا يحدث لو
هلكت هذه العصابة، وتلك الطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض؟!
فكانت
مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله وعلى
عاتق أتباعه، وهي الوصول بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعًا؛ مصداقًا لقوله تعالى
[الأنبياء:
107]. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاًَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
التفكير في الهجرة إلى الحبشة
اشتد التعذيب
بالمؤمنين في مكة وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من
الهلاك كنوع من الأخذ بالأسباب، فقد قام الرسول
بتخطيط بشري لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين.
كان من السهل الميسور أن ينقذ الله حبيبه وينقذ
المؤمنين بكلمة كن، أو ينقذهم بمعجزة خارقة للعادة، لكن هذه ليست سنة الله في التغيير، فقام رسول الله ليعلمنا أن نأخذ بأسباب واقعية، هي في يده كبشر،
وهي في أيدينا كبشر، فكر رسول الله في وسيلة
جديدة لمجابهة طغاة مكة، وتكون في ذات الوقت في مقدور المؤمنين في كل الظروف، ولم يكن
في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين؛ فقد نهاهم الله عن ذلك {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الحجر:
94
إذن فلتكن الوسيلة الجديدة هي الهجرة، الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء، ليس فيها استئصال
للدعوة.
كانت هذه خطوة تكتيكية من رسول الله سبقتها إشارات جاءت في القرآن الكريم في هذه الآونة،
حيث نزل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ
اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر:
10].
فأرض الله إذن واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي التي يعبد فيها الله ، لا تفضلها قطعة أخرى بأنهار أو أشجار، أو بأموال
أو بأهل أو عشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله ، ومن ثم فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض
(مكة) إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله كما يريدون، فليكن إذن في غيرها، حيث الأهم أن يعبدوا
الله دون أن يفتنوا في دينهم
الهجرة إلى الحبشة وأصعب قرار
كان قرار الهجرة وترك الديار والعشيرة والأموال والأولاد ليس بالأمر الهين، إنما هو قرار في غاية الصعوبة، وإنما هو قرار يحتاج إلى نفوس خاصة، مع الأخذ في الاعتبار أنهم لم يقصدوا بهذه الهجرة تحسين مستوًى أفضل للمعيشة، أو لجمع أموال ليست في بلادهم، أو لتحصيل علم ليس في مدينتهم، أو للعيش في مكان هادئ أو جميل، إنهم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها لولا قضية الدعوة، يتركونها إلى بلد آخر، قد يكون فقيرًا، وقد يكون بعيدًا، وقد يكون حارًّا أو باردًا، وقد يكون مجهولاً، كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله .،
ليس فيها استئصال للدعوة.
كانت هذه خطوة تكتيكية من رسول الله سبقتها إشارات جاءت في القرآن الكريم في هذه الآونة،
حيث نزل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ
اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر:
10].
فأرض الله إذن واسعة، وأعظم قطعة في الأرض
هي التي يعبد فيها الله ، لا تفضلها قطعة أخرى
بأنهار أو أشجار، أو بأموال أو بأهل أو عشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض
التي يعبد فيها الله ، ومن ثم فكر المسلمون
في ترك أشرف بقعة على الأرض (مكة) إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله كما يريدون
،
فليكن إذن في غيرها، حيث الأهم أن يعبدوا الله
دون أن يفتنوا في دينهم ومن هنا عظَّم الله كثيرًا من أجر الهجرة عندما تكون
في سبيله،
فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا
أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ
حَلِيمٌ} [الحج: 58، 59].
لقد هاجر المؤمنون ليس سعيًا وراء الرزق،
بل إن ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق؛ وذلك لأنهم سيتركون أعمالهم ويهاجرون إلى بلد
قد لا يتوافر فيه العمل المناسب، وهنا يعدهم الله
بالرزق الحسن في الجنة، فعلى أسوأ الفروض في حسابات البشر أن هؤلاء المهاجرين
سيقتلون أو يموتون، ووعدهم الله - ووعده الحق
- أنهم لو قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقًا حسنًا، إضافةً إلى أنه قد عُلم عند المؤمنين
أن رزقهم في الدنيا لا ينقص، ستأتيهم أرزاقهم رغمًا عنهم، في بلدهم أو في خارجها، في
عمل أو في آخر {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:
ومن هنا فقد كان السبب الأول في الهجرة
التي قررها رسول الله هو حماية الدعوة، وهذا
يعني أن رسول الله أراد أن يجعل للدعوة محضنًا
آخر غير مكة، حتى إذا استُؤصل الدعاة من مكة تكون ما زالت هناك طائفة أخرى وفي مكان
آخر لاستمرار طريق الدعوة. فكان من الحكمة إذن أن يكون للدعوة أكثر من مركز وأكثر من
مكان؛ حتى إذا أغلق واحد منها استمر الآخر وظل في عمله، وكما يقولون: لا تضع بيضك كله
في سلة واحدة
فمن أجل الدين يُضحى بكل شيء، والمؤمنون
يبذلون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكنهم لا يبذلون دينهم للحفاظ على أرواحهم، بل إن
الله حث المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظًا على
دينهم
فقال: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111
الملاحظة الأولى: أن أمر
الهجرة كان لفئة خاصة من المؤمنين
فلقد طُلبت الهجرة من القرشيين ولم تطلب
من العَبِيد، أو من الذين كانوا عبيدًا، وقد هاجر الذين يتمتعون بعصبية وقبلية تستطيع
أن توفر لهم الحماية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة ولم يهاجر الموالي المستضعفون، ولو
كان الهدف الأول حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء، وإن هذا ليجرنا
إلى سؤال آخر وهو: لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟! ولماذا أمر رسول الله الأشراف بالهجرة ولم يأمر العبيد؟!
1- لأن هذا أدعى لحمايتهم؛ فأمر الهجرة أمر
جِدُّ خطير، وقد تطارد مكة فوج المهاجرين، وفي لحظات من الغضب والغيظ قد يتهور أهل
مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، خاصة إذا كانوا عبيدًا، أما إذا كانوا من الأشراف
فإن عملية الهجرة تصبح أقل خطورة من سابقتها؛ حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم
حملاً إلى مكة، ولن يفكروا أبدًا في قتلهم؛ وذلك لمنعة قبائلهم
.
2- أن
الأشراف هؤلاء سيكونون أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ إذ إنه
قد اقتضت طبيعة البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم
يؤبه له، وكان الغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض هذا الأمر
بأفضل صورة ممكنة، وفي هذه الحالة أيضًا سيستقبل المهاجرون على أنهم وفد سياسي
معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم.
3- أن
هجرة الأشراف هذه ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة؛ فمثل هذه الهجرة ستفيق أهل
مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم خيرة أهل البلد، وهم من أكثر
الناس سعيًا لإصلاحها، وهم أيضًا من أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، ثم ها هم
يغادرون البلد لأنهم لم يجدوا فيها أمانًا، فما أبشع فعل أهل الباطل هذا، وما أشنع
الجريمة، أهؤلاء هم الذين يطردون؟! أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟!
ومن هنا تكون هجرة الأشراف -ولا شك- صدمة قوية لأهل مكة، قد ينتبهون على أثرها
إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إنه إذا كان قد هاجر المستضعفون
فرد الفعل هو: لا ضير، أليسوا عبيدًا تركوا البلد، فلنأتِ بعبيد آخرين، وهذا ما كان
سيفكر فيه الطغاة، ضاربين عرض الحائط اعتبار الآدمية والإنسانية، وبهذا يكون الرسول قد دفع المشركين دفعًا إلى تحريك عواطفهم ومشاعرهم
لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله.
الملاحظة الثانية: طول الفترة التي قضاها المهاجرون في بلد الهجرة
ومما يؤكد على أن الهجرة إنما كانت لحماية الدعوة هو الفترة التي قضاها المهاجرون
في مهجرهم، ولننظر: متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد؟ هل عادوا
في فترة مكة، أم عادوا في فترة المدينة؟
والواقع أن المهاجرين مكثوا في الحبشة حوالي خمس عشرة سنة متتالية، ولم يعودوا
إلا بعد أن اطمأنُّوا إلى زوال خطر استئصال الدعوة، فقد هاجر المسلمون هجرتهم الأولى
إلى الحبشة في شهر رجب من العام الخامس من البعثة، ثم عادوا سريعًا إلى مكة بعد ثلاثة
أشهر كما سيأتي بيانه، ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة
من البعثة، وقد مكثوا فيها طيلة اثنتي عشرة سنة كاملة، ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر
وقد مرت في هذه الأثناء أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين، ومرت
أحداث عظيمة جدًّا في بناء الأمة الإسلامية، ورغم ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة،
ولم يكن ذلك اجتهادًا منهم، بل كان بأمر من قيادة المسلمين المتمثلة آنذاك في رسول
الله ، فكانت قد مرت الهجرة النبوية إلى المدينة
المنورة، وكان قد مر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعبًا جدًّا، وكان عدد المسلمين
آنذاك قليلاً، وهم في الحبشة قد تجاوزوا الثمانين (كان عدد المهاجرين في بدر هو تقريبًا
نفس عدد المهاجرين في الحبشة تجاوز الثمانين بقليل)، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله ، ثم مرت الغزوات العظام؛ مرت بدر، ثم بنو قينقاع،
ثم أُحد، ثم بنو النضير، ثم الأحزاب، ثم بنو قريظة، ثم الحدث الكبير والمهم في مسيرة
الدولة الإسلامية وهو صلح الحديبية، ولم يطلبهم بعد رسول الله .
د.
راغب السرجاني بتصرف يسير
اشتداد الأذى على المسلمين والهجرة من مكة
فقه السيرة
ش عبد العظيم بدوي
بعد الاضطهاد والتعذيب لرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ولمَن آمن معه،
خرج المسلمون من مكة، وهاجروا إلى الحبشة ثم هاجروا إلى المدينة،
مضحين بأموالهم وأهليهم، وذلك لما اشتد عليهم الأذى والبلاء، وخافوا الفتنة.
وقد كان إقدام المسلمين على الهجرة، وخوض غمار المخاطر في سبيل
الله،- وقد تخلوا عن أموالهم وأوطانهم وأهليهم، مع استمرارهم في عداوة وقطيعة
شديدتين مع قومهم - كان ذلك عملًا عظيمًا منهم،
أثنى عليهم الله تعالى بقوله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر].
محاولة أبو
بكرالهجرة وجوار ابن الدغنة
عن عائشة
رضي الله عنها (لم أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إلا وهما يَدِينانِ الدِّينَ، ولم يَمُرَّ
علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم طَرَفَيِ النهارِ،
بُكْرَةً وعَشِيَّةً، فلما ابتُلِيَ المسلمون خرج أبو بكرٍ مُهاجرًا نحوَ أرضِ الحَبَشةِ،
حتى إذا بَرْكَ الغِمَادُ لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَّةِ، وهو سَيِّدُ القارَّةِ، فقال
: أين تريدُ يا أبا بكرٍ ؟ فقال أبو بكرٍ : أَخْرَجَني قومي، فأريدُ أن أَسِيحَ في
الأرضِ وأعبدَ ربي . قال ابنُ الدَّغِنَّةِ : فإن مِثْلَكَ يا أبا بكرٍ لا يَخرُجُ
ولا يُخْرَجُ، إنك تَكْسِبُ المعدومَ، وتَصِلُ الرحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي
الضيفَ، وتُعينُ على نوائِبِ الحَقِّ، فأنَا لك جارٌ، ارجِع واعبدْ ربَّك ببلدِكَ
. فرجع وارتحل معه ابنُ الدَّغِنَّةِ، فطاف ابنُ الدَّغِنَّةِ عَشِيَّةً في أَشرافِ
قريشٍ، فقال لهم : إن أبا بكرٍ لا يَخْرُجُ مِثْلُه ولا يُخْرَجُ، أَتُخرِجون رجلًا
يَكْسِبُ المعدومَ، ويَصِلُ الرحِمَ، ويَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضيفَ، ويُعينُ
على نوائبِ الحقِّ . فلم تكذبْ قريشٌ بِجِوارِ ابنِ الدَّغِنَّةِ، وقالوا لابنِ الدَّغِنَّةِ
: مُرْ أبا بكرٍ فليعبدْ ربَّه في دارِه، فلْيُصَلِّ فيها ولْيَقْرَأْ ما شاء، ولا
يُؤْذِينا بذلك ولا يَسْتَعْلِن به، فإنا نَخْشَى أن يَفْتِنَ نساءَنا وأبناءَنا .
فقال ذلك ابنُ الدَّغِنَّةِ لأبي بكرٍ، فلبِث بذلك يعبدُ ربَّه في دارِه، ولا يستعلنُ
بصلاتِه ولا يقرأُ في غيرِ دارِه، ثم بدا لأبي بكرٍ، فابتَنَى مسجدًا بفناءِ دارِه،
وكان يصلي فيه، ويقرأُ القرآنَ، فيَنْقَذِفُ عليه نساءُ المشركين وأبناؤُهم، وهم يَعْجَبونَ
منه وينظرون إليه، وكان أبو بكرٍ رجلًا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ عينيه إذا قرأ القرآنَ،
وأفزع ذلك أشرافَ قريشٍ من المشركينَ، فأرسلوا إلى ابنِ الدَّغِنَّةِ فقَدِم عليهم،
فقالوا : إنا كنا أَجَرْنا أبا بكرٍ بجِوارِك، على أن يعبدَ ربَّه في دارِه، فقد جاوز
ذلك، فابتَنَى مسجدًا بفِناءِ دارِه، فأَعْلَنَ بالصلاةِ والقراءةِ فيه، وإنا قد خَشِينا
أن يَفْتِنَ نساءَنا وأبناءَنا، فانهَهُ، فإن أَحَبَّ أن يقتصرَ على أن يعبدَ ربَّه
في دارِه فعل، وإن أَبَى إلا أن يُعْلِنَ بذلك، فَسَلْهُ أن يَرُدَّ إليك ذِمَّتَك،
فإنا قد كَرِهنا أن نُخْفِرَكَ، ولَسْنا مُقِرِّينَ لأبي بكرٍ الاستِعلانَ . قالت عائشةُ
: فأتى ابنُ الدَّغِنَّةِ إلى أبي بكرٍ فقال : قد عَلِمْتَ الذي عاقَدْتُ لك عليه،
فإما أن تقتصرَ على ذلك، وإما أن تَرْجِعَ إلَيَّ ذِمَّتِي، فإني لا أحبُّ أن تسمعَ
العربُ أني أُخْفِرْتُ في رجلٍ عَقَدْتُ له . فقال أبو بكرٍ : فإني أَرُدُّ إليك جِوارَكَ،
وأَرْضَى بجِوارِ اللهِ عز وجل، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَوْمَئِذٍ بمكةَ،
فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم للمسلمينَ : ( إني أُرِيتُ دارَ هجرتِكم، ذاتَ
نخلٍ بين لابَتَيْنِ ) . وهما الحَرَّتانِ، فهاجر مَن هاجر قِبَلَ المدينةِ، ورجع عامَّةُ
مَن كان هاجر بأرضِ الحبشةِ إلى المدينةِ، وتجهز أبو بكرٍ قِبَلَ المدينةِ، فقال له
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : ( على رِسْلِكَ، فإني أرجو أن يُؤْذَنَ لي
) . فقال أبو بكرٍ : وهل تَرْجُو ذلك بأبي أنت ؟ قال : ( نعم ) . فحبس أبو بكرٍ نفسَه
على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لِيَصْحَبَهُ، وعَلَف راحلتينِ كانتا عنده
وَرَقَ السَّمُرِ، وهو الخَبْطُ، أربعةَ أشهرٍ . قال ابنُ شهابٍ : قال عروةُ : قالت
عائشةُ : فبينما نحن يومًا جلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظهيرةِ، قال قائلٌ لأبي
بكرٍ : هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مُتَقَنِّعًا، في ساعةٍ لم يكنْ يأتينا
فيها، فقال أبو بكرٍ : فِداءٌ له أبي وأمي، واللهِ ما جاء به في هذه الساعةِ إلا أمرٌ
. قالت : فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فاستأذن، فأَذِنَ له فدخل، فقال
النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لأبي بكرٍ : ( أَخْرِجْ مَن عندَك ) . فقال أبو بكرٍ
: إنما هم أهلُك، بأبي أنت يا رسولَ اللهِ، قال : ( فإني قد أُذِنَ لي في الخروجِ
) . فقال أبو بكرٍ : الصحابةُ بأبي أنت يا رسولَ اللهِ ؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّم : ( نعم ) . قال أبو بكرٍ : فَخُذْ - بأبي أنت يا رسولَ اللهِ - إحدى
راحِلَتَيَّ هاتين، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : ( بالثَّمَنِ ) . قالت
عائشةُ : فجَهَّزْناهما أَحَثَّ الجِهازِ، وصَنَعْنا لهما سُفْرَةً في جِرابٍ، فقطعتْ
أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً من نِطاقِها، فربَطَتْ به على فَمِ الجِرابِ، فبذلك سُمِّيَتْ
ذاتُ النِّطاقَيْنِ، قالت ثم لَحِقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأبو بكرٍ
بغارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فكَمَنا فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيتُ عندَهما عبدُ اللهِ بنُ أبي
بكرٍ، وهو غلامٌ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فيُدْلِجُ مِن عندِهما بسَحَرٍ، فيُصبِحُ مع
قريشٍ بمكةَ كبائتٍ، فلا يسمعُ أمرًا يُكتادانِ به إلا وَعاهُ، حتى يأتيَهما بخَبَرِ
ذلك حين يختَلِطُ الظلامُ، ويَرْعَى عليهما عامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ مولى أبي بكرٍ مِنحَةً
من غَنَمٍ، فيُرِيحُها عليهما حين تذهبُ ساعةٌ من العِشاءِ، فيَبِيتانِ في رِسْلٍ،
وهو لبنُ مِنحتِهِما ورَضِيفِهِما، حتى يَنعِقَ بها عامرُ بنُ فهيرةَ بغَلَسٍ، يفعلُ
ذلك في كلِّ ليلةٍ من تلك الليالي الثلاثِ، واستأجر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّم وأبو بكرٍ رجلًا من بني الدَّيْلِ، وهو من بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هاديًا خِرِّيتًا،
والخِرِّيتُ الماهرُ بالهدايةِ، قد غَمَس حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْمِيِّ،
وهو على دينِ كفارِ قريشٍ، فأمِنَّاهُ فدفعا إليه راحِلَتيهما، وواعداه غارَ ثَوْرٍ
بعد ثلاثِ ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صُبحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامرُ بنُ فهيرةَ،
والدليلُ، فأخذ بهم طريقَ السواحلِ .)
الراوي: عائشة أم المؤمنين
المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3905-خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
فلما رأى النبي -عليه
الصلاة والسلام- أنَّ الأذى يشتد بأصحابه أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة،
فهاجروا
-رضي الله عنهم- فماذا كان من شانهم في هذه الهجرة؟
وما
هي الدروس المستفادة التي نأخذها من هذه الهجرة؟
كانت
للهجرة إلى الحبشة أسباب:-
1----منها: الأذى والاضطهاد
والتعذيب الذي لحق الصحابة -رضوان الله عليم كما أشرنا.سببا
للهجرة
2---ومنها: الفرار
بالدين،
فالله -سبحانه وتعالى- قد أمر المستضعفين في الأرض بالهجرة {إِنَّ أَرْضِي
وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]،
فإذا استُضعف مسلم في
بلد وعجز عن إظهار دينه؛ وجبت عليه الهجرة إلى أرض يستطيع فيها القيام بشعائره إذا كان
يستطيع الهجرة، فكان الفرار بالدين خشية الافتتان سببًا مهمًّا من أسباب الهجرة
إلى الحبشة.
3---ومنها: نشر الدعوة
إلى خارج مكة، يهاجرون فينشرون الدعوة.
4---ومنها: البحث عن
مكان آمن للمسلمين، هم في مكة لا يأمنون على أنفسهم، فهاجروا يبحثون عن بلد
يامنون فيه على أنفسهم.
فلماذا
أشار النبي -عليه الصلاة والسلام- على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة دون غيرها من
البلاد؟
لماذا خص
الحبشة؟ لما لم يذهبوا لليمن، لم يذهبوا للمدينة، لم يذهبوا هنا أو هنا؛ لماذا خص
الهجرة بالحبشة؟
1----أشار النبي -عليه
الصلاة والسلام- إلى السبب في الهجرة إلى الحبشة ----بقوله لأصحابه:
«لو خرجتم
إلى أرض الحبشة؛ فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد»، وكان النجاشي ملكًا وكان
نصرانيًّا، لكن كان ملكًا عادلًا، وكان موصوفًا بالصلاح.
فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم: (إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده ، فالْحقوا
ببلادِه حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتُم فيه)
الراوي: أم
سلمة هند بنت أبي أمية المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم:
3190- خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد
وكان يثني
عليه، فلذلك أشار -عليه الصلاة والسلام- على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة.
2--ثم إنَّ الحبشة هي متجر
قريش، والتجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي،------ والحبشة تعتبر
من مراكز التجارة في الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في
التجارة،
وحاولت
قريش أن تطارد المهاجرين من الصحابة، وتردهم إليهم لينتقموا منهم، فيعذبوهم أو
يقتلوهم، فأرسلوا إلى النجاشي وفدًا ليردهم إليهم، ولكن النجاشي لصلاحه وعدله أبى
أن يردَّ المهاجرين مع وفد قريش الذي بعثته إليه ليردَّ عليهم المهاجرين إليه.
(عن
أمِّ سلمةَ لمَّا نزلنا أرضَ الحبشةِ جَاوَرْنَا بها خيرَ جارٍ النَّجاشيِّ أَمِنَّا
على دِيننا وعَبَدْنَا اللهَ تعالى لا نُؤذَى . . . .
الراوي: أبو
بكر بن عبدالرحمن المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم:
7/578
خلاصة حكم المحدث:
إسناده جيد
وفي أثناء إقامة
المسلمين الأولين الذي هاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى؛
أسلم حمزة -رضي الله عنه
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه.وسنذكرهما إن شاء الله
فلمَّا أسلم حمزة وعمر، يعني المسلمين وجدوا في ذلك ملاذًا،------- وصاروا
يُظهرون إسلامهم، ويظهرون عزتهم وكرامتهم بإسلام حمزة وعمر -رضي الله عنهما- فبلغ
الخبر المهاجرين في الحبشة أن حمزة أسلم -عم النبي- الأسد المشهور المعروف بشجاعته
وجراته، عمر كذلك، الفاروق المشهور بجراته وشجاعته،
1-----فكان
الخبر بإسلام حمزة وعمر السبب في أن المهاجرين يرجعون إلى مكة بعد الهجرة الأولى
.هذا هو السبب الرئيس في
عودة المهاجرين إلى الحبشة مكة؟،
ونكمل بحول
الله المرة القادمة
فقه السيرة
للشيخ عبد العظيم بدوي بتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق